فصل: تفسير الآيات (58- 60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (58- 60):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)}.
التفسير:
جاءت هذه الآيات الثلاث لتستكمل أدب المعاشرة والمخالطة في المجتمع الإسلامى، بعد أن بينت الآيات السابقة أحكام الاستئذان، والحجاب والتحصن في الزواج.. وكان من تدبير الحكيم العليم في هذا، أنه لم يجيء بهذه الأحكام جميعها في معرض واحد، حتى لا تزحم العقل، وحتى لا يفلت منها شيء في هذا المزدحم.. فهى جميعها دستور متكامل، وعقد منتظم، إن انفرطت حبة منه انفرطت حبّات العقد كلها.
ومن أجل هذا كان هذا الفصل بينها بتلك الآيات، التي عرضت ماللّه سبحانه وتعالى من جلال وقدرة، وأنه سبحانه نور السموات والأرض، وما فيهن، وأن كلّ من في السموات والأرض يسبح بحمده، وأن عالم الأحياء خلق جميعه من ماء، وذلك بقدرة القادر العليم الحكيم.. وأنه كما اختلفت عوالم الأحياء صورا وطبائع، اختلف الناس عقلا وسفها، وإيمانا وضلالا.
فكان فيهم المؤمنون المتقون، وكان منهم الكافرون الجاحدون، وكان فيهم المنافقون، الذين يجمعون بين الكفر والإيمان.
وبعد هذا العرض الممتد المتنوّع، تجيء هذه الآيات الثلاث، لتستوفى أدب المعاشرة والمعايشة، بين الناس والناس.
وفى قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} في هذا أمر للمؤمنين- من رجال ونساء أن يلزموا مواليهم الذين تحت أيديهم- من عبيد وإماء- ألا يدخلوا عليهم خلواتهم، إلا بعد إذن.. وذلك في ثلاثة أوقات بينتها الآية كما سنرى.
وكذلك تحمل الآية أمرا إلى البالغين الراشدين- من أحرار الرجال والنساء- ألا يدعوا الصغار- من بنين وبنات- الذين، لم يبلغوا الحلم بعد، ولكنهم يميزون ما للرجل والمرأة، ويعرفون العورة وغير العورة- ألّا يدعوهم يدخلون عليهم في هذه الأوقات الثلاثة إلا بعد استئذان، وإذن.
وهذه الأوقات، قد بينها اللّه سبحانه وتعالى في قوله:
{مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ}.
ففى هذه الأوقات الثلاثة، يتهيأ الإنسان للراحة والنوم، ويتخفف كثيرا من ملابسه ومن تحفظه في ستر عورته، لأنه على شعور بأنه في خلوة مع نفسه، أو مع زوجه.
ففى هذه الأوقات الثلاثة ينبغى ألا يدخل الموالي- عبيدا أو إماء- على سادتهم، من رجال أو نساء، وكذلك الصغار المميزون من بنين وبنات- لا يدخلون على آبائهم أو أمهاتهم، أو غيرهم، إلا بعد أن يستأذنوا ويؤذن لهم.
وذلك سترا للعورات، وحفظا للحياء، وسدّا لذرائع الفتنة.
وقوله تعالى: {ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ} أي هذه الأوقات، هي أشبه بثلاث عورات لكم، ينبغى أن تصونوا فيها أنفسكم عن أن يدخل عليكم أحد فيها إلا بإذن، حتى أولئك الذين لا تحتشمون لهم، ولا تتحرجون كثيرا منهم، وهم الموالي والصغار.
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ}.
أي لا حرج عليكم ولا عليهم، بعد هذه الأوقات الثلاثة، في أن يدخلوا عليكم من غير استئذان.. إذ كان أمركم غالبا في غير تلك الأوقات، أقرب إلى التصوّن والتحفظ.. وفى الاستئذان الملزم للموالى والصغار، في جميع الأوقات، كثير من الحرج، الذي تأباه هذه الشريعة، وتعفى أتباعها منه.
وقوله تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ}.
جملة حالية. أي لا جناح عليكم ولا عليهم بعد هذه الأوقات الثلاثة وأنتم طوافون بعضكم على بعض.. فهذا شأنكم وشأنهم، بحكم المخالطة والمعاشرة.. ومن هنا رفع عنكم وعنهم الحرج، في غير هذه الأوقات الثلاثة.. فلكم أن تطوفوا عليهم، ولهم أن يطوفوا عليكم من غير استئذان!
وقوله تعالى: {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي مثل هذا البيان الجلىّ الواضح، يبين اللّه لكم الآيات، ويجيء بها محكمة، لا تحتاج إلى تأويل، حتى تأخذوا بها، وتستقيموا عليها.. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما يصلح حياتكم {حَكِيمٌ} في وصف الدواء لكل داء، يعطى منه بالحكمة، دون إفراط أو تفريط.
قوله تعالى: {وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
أي أن هؤلاء الأطفال، الذين أذن لهم بالطواف عليكم من غير استئذان في كل وقت، ما عدا هذه الأوقات الثلاثة- هؤلاء الأطفال إذا زايلتهم صفة الطفولة، وبلغوا الحلم، ودخلوا مدخل البالغين- من رجال ونساء- أخذوا بحكمهم، وأصبح لزاما عليهم أن يستأذنوا في جميع الأوقات، لا في هذه الأوقات الثلاثة وحسب.
وفى قوله تعالى: {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} إشارة إلى أن هذا الأمر وإن كان واضحا، من حيث أن الطفولة هي التي قضت بإعفاء الأطفال من الاستئذان في غير هذه الأوقات الثلاثة، فإذا زايلتهم الطفولة زايلهم حكمها الذي ترتب عليها- إلا أنه يمكن لمتأول أن يتأول الطفولة بأنها البنوّة، ومن ثم فإن أبناء الرجل أو المرأة إذا بلغوا، ظلّ هذا الأعفاء ملازما لهم.. فكان هذا البيان الحكيم، وضعا للأمر في موضعه الصحيح، وقاطعا الطريق على كل تأويل، إذ كان الأمر من عظم الشأن بحيث يجب كشفه وبيانه على هذه الصورة الواضحة، حتى لا يقع فيه لبس أو خفاء.
ولابدّ من أن يقف المرء هنا وقفة متأملة أمام هذا الأدب الإسلامى الرفيع، الذي يضفى على أتباعه سترا جميلا من التصوّن، والتعفف، والحياء، بهذه الحواجز الرقيقة التي لا تشف عما وراءها من عورات، وذلك لا يكون إلا في مجتمع كملت إنسانيته، ورقت مشاعره، فعرف لنفسه قدرها، ولكرامته حقها.
إن الحياء هو لباس الإنسانية التي جمّلها اللّه سبحانه وتعالى به.. ولهذا كان أول ما ظهر على آدم من صفات الإنسان هي ستر عورته، حين ظهرت إرادته بهذا العصيان الذي عصى به ربّه، وأكل من الشجرة التي نهى عن الأكل منها.. إنه هنا كائن ذو إرادة.. إنه إنسان..! ولن يكون إنسانا وهو في هذا العرى الحيواني.. فكان أن نظر آدم وزوجه إلى وجودهما، فرأيا سوءتيهما، وفرض عليهما الحياء أن يسترا ما استحييا منه.. وقد أسعفتهما الحيلة، فطفقا يخصفان عليهما من أوراق الشجر، ما ستر العورة.
هذا هو الإنسان في أصل فطرته.. الحياء أول شعور وجده في كيانه، وستر العورة أول صنيع صنعه ليخرج به عن عالم الحيوان..!
ومن أجل هذا كان من آداب الإسلام، هذا الحرص الشديد على الحفاظ على عورات المسلمين، وعلى إيقاظ مشاعر الحياء فيهم، بما أوجب عليهم من أحكام وآداب، في المخالطة والمعاشرة، والاستئذان وستر العورة، حتى يظل ماء الحياء ساريا في كيانهم، تتغذّى منه مشاعرهم، وتسمو به إنسانيتهم.. فإنه لا إنسانية إذا خفّ ماء الحياء فيها.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «الحياء خير كله».
«والحياء شعبة الإيمان».
«الحياء من الإيمان».
فأين هذا الأدب الرفيع من تلك الحياة البهيمية التي تعيش فيها أمم تعد في نظر المجتمعات الإنسانية قائمة على قمة الرقىّ، مستولية على زمام المدنية والحضارة؟ ولا تسل عن الأزياء الخليعة التي تشف عما تحتها، وتجسّد ما وراءها.
ولا تقف عند الاختلاط الحيواني بين الرجال والنساء في الأندية والطرقات، والبيوت.. فذلك كله قد صار حياة من حياة تلك المجتمعات، ووضعا مستقرا من أوضاعها.. ولكن الذي يثير العجب والدهش حقا أن يصبح هذا الأسلوب من الحياة دينا يدين به الناس، له فلسفته، وله آدابه وأحكامه.
تجد ذلك في أندية العراة، وفى مجتمع الوجودية والبرجمانية وغيرها.. مما تضج به حياة الغرب.
والعجب، هو أن يكون للفوضى منطق، وأن يكون للعرى أدب!
قوله تعالى: {وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
وهذه الآيات استثناء أيضا من عموم قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ...} الآية.
فالقواعد من النساء، وهن المتقدمات في السنّ، اللاتي لا إربة لهن في الرجال ولا أرب للرجال فيهن- هنّ أشبه بالأطفال الذين لم يبلغوا الحلم.. ومن هنا كانت نظرة الشريعة إليهن، التخفيف مما أخذ به النساء عموما، من ألا يبدين زينتهن، ولا يكشفن شيئا من تلك الزينة إلا لمن استثنوا في الآية من الأزواج وغيرهم.
فهؤلاء القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا- ليس عليهن حرج في أن يتخففن من ثيابهن، في جميع الأوقات، مع المحارم، وغير المحارم.
والمراد من ثيابهن، الثياب التي يراد منها ستر ما وراءها من زينة.
كغطاء الرأس، والخمار وغيرهما.. لا الثياب التي تستر العورات من المرأة.
وفى قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ} قيد للإذن برفع الحرج عنهن في وضع ثيابهن، وذلك بألا يكون غرضهن من وضع هذه الثياب إبداء زينتهن، والتعرض بعرضها للأعين.. فهذا ينافى الوصف الذي وصفن به، وهوقوله تعالى: {اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً} لأن تبرجهن بالزينة، وعرض أنفسهن بها، ينقض هذا الوصف.
وقوله تعالى: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ}.
أي وإن يتحفظن، ويدعن التخفف، خير لهن.
فذلك التعفف وعدم التبرج هو من طبيعة المرأة الحرة، أيا كانت السنّ التي بلغتها.. ثم هو من زينة المرأة المسلمة، ومن أدبها الذي تعيش به في المجتمع الإسلامى! أما هذا التخفيف فهو رخصة، من اللّه، للتخفيف والرحمة، تضعها المرأة في يدها، وتستعملها عند الضرورة، بعقل، وحكمة، ودين.
واللّه سميع عليم.

.تفسير الآية رقم (61):

{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)}.
التفسير:
اختلف المفسرون في الحرج الذي رفع عن الأعمى، والأعرج، والمريض.
وذهب أكثرهم إلى القول بأن هذا الحكم نزل في شأن أولئك الزمنى، وأصحاب العاهات، الذين كانوا يقومون على شئون المسلمين الذاهبين إلى الغزو، حيث يخلّفونهم وراءهم، ويدعون إليهم التصرف في شئونهم.. ويضعون في أيديهم ما يملكون، من مال أو متاع إلى أن يعودوا من الغزو..!
وهذا الرأى يعارضه ما جاء في قوله تعالى في هذه الآية: {أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} فهؤلاء الزمنى والمرضى، يدخلون في عموم هذا الحكم، سواء كانوا ممن في أيديهم مفاتيح المجاهدين، أو كانوا أصدقاء لهم.
والذي نذهب إليه، ونرجو- إن شاء اللّه أن يكون صحيحا- هو أن الآية الكريمة دعوة إلى البر والتوادّ بين المسلمين عامة، وبين الأهل والأقارب خاصة.. وأنه إذا كان للمسلم أن يتحرج من أن يستطعم أو يطعم من أحد من الناس، فإنه ليس له أن يتحرج من أن يستطعم أو يطعم من أحد من الناس، فإنه ليس له أن يتحرج أو يخزى، إذا هو أصاب طعامه عند أحد من أقاربه هؤلاء، الذين ذكرهم اللّه سبحانه في تلك الآية، من الآباء والأمهات، والإخوة، والأخوات، والأعمام والعمات والأخوال والخالات- فهؤلاء جميعا أبناء أسرة واحدة، قد قضوا فترة من حياتهم معا، يظلهم سقف واحد، وتجمعهم معيشة واحدة.. فإذا التمس أحدهم طعاما، ولم يجده في بيته، كان له أن يلتمسه عند أىّ من الأقارب، وأن ينال منه شبعه، بإذن أو بغير إذن.
هكذا التكافل بين الأقارب وذوى الأرحام.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآيات السابقة، كانت دستورا يحكم العلاقة بين الأقارب، وذوى الأرحام، من رجال ونساء، في اختلاط بعضهم ببعض، كما أنها تحكم العلاقة بين المسلمين عامة- من رجال ونساء- في دخول البيوت، بعد الاستئذان، والإذن من أصحابها.
ولما كان هذا الاختلاط بين الأقارب، وهذا لتزاور بين المسلمين عامة، يضع المخالطين والزائرين في أحوال يشهدون فيها طعاما بين يدى أهل البيت الذي دخلوا إليه مستأذنين- فقد كان من تمام الحكمة أن تبين الشريعة ما يقضى به الموقف إزاء هذا الطعام الممدود، وهل من حرج على من يحضره أن يتناول منه، إذا دعى إليه؟ إن الذي دخل البيت هنا لم يكن يقصد الطعام الذي حضرة.. وربّما يقع في شعور أهل المنزل أنه جاء يطلب الطعام، ويرصد وقته، وقد يكون الزائر جائعا فعلا، ونفسه تشتهى هذا الطعام، ولكنه يتحرج أن ينال منه.
إن هناك مشاعر كثيرة مختلطة تشتمل على أهل الدار وعلى زائرهم.
فكان ما جاءت به الآية الكريمة هنا، ما يصحح هذه المشاعر، ويقيمها على ميزان حكيم عادل كما سنرى.
فقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ}.
.- هو رفع للحرج عن هذه الأصناف التي ذكرتها الآية، من أن يستطعموا، ويطعموا من تلك البيوت التي يطرقونها ولا حرج عليهم في هذا.
أما الأعمى، والأعرج، والمريض.. فإنهم حين يقعون تحت داعية الحاجة إلى الطعام، ويعجزهم حالهم عن أن ينالوا من كسب أيديهم، فإنهم في هذه الحال أبناء الأسرة الإسلامية كلها، وإن لهم على المجتمع حقّ الإطعام، كما للابن على أبيه أن يدخل بيته، وينال من الطعام ما يسد جوعته.
ولكى يتقرر هذا المعنى في نفوس المسلمين، ولكى يصبح هذا الأمر حقّا، للأعمى والأعرج والمريض، على المجتمع الإسلامى، يطالب كل منهم به، ويستأدبه من أي مسلم قادر على الوفاء به، دون أن يكون في ذلك جرح لكرامته، أو منّة وفضل عليه من أحد- نقول لكى يتقرر هذا، فقد قدّمهم القرآن على الأهل والأقارب، إذا كانوا على الصحة والسلامة، وكانوا أقدر على أن يجدوا حيلة لدفع غائلة الجوع عنهم، بخلاف هؤلاء العجزة الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
فجاءت الآية برفع الحرج عن هؤلاء العجزة أولا، ثم دخل معهم هؤلاء الذين جاءت بهم الآية، من الأقارب، وذوى الأرحام.. ثانيا.
وهذا الذي ذهبنا إليه، هو الذي يتفق مع روح تلك الشريعة السمحاء، التي قامت على التآخى بين الناس، والتكافل بين المسلمين جميعا.
وفى هذا يقول الرسول الكريم: «ليلة الضّيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروما كان دينا عليه، فإن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه».
ويقول- صلوات اللّه وسلامه عليه: «أيّما مسلم ضاف قوما فأصبح الضيف محروما، فإن حقّا على كل مسلم نصره، حتى يأخذ بقرى ليلته، من زرعه وماله».
وروى البخاري ومسلم عن عقبة بن عامر قال: قلنا يا رسول اللّه تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا.. فما ترى في ذلك؟ فقال- صلوات اللّه وسلامه عليه: «إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغى للضيف فاقبلوا منهم، وإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغى لهم».
والذي ينظر في الآية الكريمة يجد أن مساقها يشير إشارة واضحة إلى أن المقصود برفع الحرج فيها، إنما هو عن أولئك العجزة.. من الأعمى، والأعرج والمريض، وأن من دخل بعدهم في هذا الحكم من الأهل والأقارب، إنما جاء ليدعم هذه القضية، قضية العجزة، وليدلّ على أنهم أولى في هذا المقام من الأهل والأقارب، وأنه إنما رفع الحرج عن الأقارب، تبعا لهؤلاء.
ففى قوله تعالى: {وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ} ما يشعر بأن شيئا ما من الحرج مع هذا الإذن، وأن الإسلام قد تجاوز عنه، تخفيفا ورحمة، إذ كان المقام مقام رحمة عامة تنال البعيد، ولا يحرم منها القريب.
ولهذا جاء التصريح نصا برفع الحرج، عن الأعمى، وعن الأعرج، وعن المريض.. هكذا.
{ليس على الأعمى حرج} {ولا على الأعرج حرج} {ولا على المريض حرج} وكل واحد منهم قد نصّ على رفع الحرج عنه.. زيادة في التقرير، والتوكيد.. وإلّا كان من مقتضى النظم أن يجيء رفع الحرج.. مرة واحدة عن جميع المتعاطفين.. هكذا: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}.
ثم إنه حين جاء ذكر الأقارب، لم يجيء رفع الحرج عنهم نصّا مصرّحا به، بل جاء بالحمل على الحكم الذي كان للمعطوف عليهم، وهم هؤلاء العجزة!.. ولكأن المعنى هو: حتى ولا على أنفسكم حرج.
وفى قوله تعالى: {أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ}.
إشارة إلى صنفين آخرين من الناس، ليس عليهم حرج في أن يأكلوا مما ليس لهم.
والصنف الأول، هم الذين في أيديهم مفاتيح غيرهم، كالوكلاء، والأوصياء، وغيرهم، ممن يتولّون شئون غيرهم، وحفظ أموالهم وأمتعتهم، فهؤلاء لهم أن يأكلوا مما تحت أيديهم، بالمعروف، من غير إسراف، وذلك إذا كانوا في حاجة إلى هذا الذي يأكلونه.. كما يقول سبحانه: {وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [6: النساء].. أما الصنف الآخر، فهم الأصدقاء، إذ أن لهم على أصدقائهم هذا الحق الذي يجعل لهم مما في أيدى أصدقائهم شيئا، أقلّه هو لقمة الطعام عند الحاجة.. لأن الصداقة، لا تكون صدقا إلا إذا وصلت بين الصديقين بحبل المودّة والإخاء.
هذا، ويلاحظ في الآية الكريمة أمران:
أولهما: أنها لم تذكر الأبناء، بالنسبة للآباء، على حين ذكرت الآباء، وفتحت بيوتهم للأبناء.. وذلك لأن الأبناء لا يتحرّجون أبدا من أن يطعموا مما يجدون في بيوت آبائهم.. وكيف وقد أنبتتهم هذه البيوت، وغذتهم منذ الولادة إلى أن صاروا رجالا.. فهل تنكرهم هذه البيوت بعد هذا؟ وهل يجد أحد منهم وحشة في دخولها، وتناول طعامه منها؟ ذلك ما لا يكون! أما الآباء فإنهم إذ تلجئهم الحاجة إلى بيوت أبنائهم، فإنهم يغشون بيوتا لم يكن لهم بها عهد.. إنها بيوت مستحدثة، أحدثها أبناؤهم، بعد أن كبروا، واستقلوا بحياتهم.
ومن هنا تكون الوحشة، ويكون الحرج.. وقد جاء القرآن الكريم برفع هذا الحرج.
ومن جهة أخرى، فإن الآباء، لا يمكن أن يضيقوا أبدا بأبنائهم إذا دخلوا عليهم، وطعموا من طعامهم، في أي وقت، وعلى أي حال، بل إن ذلك هو مبعث السعادة والرضا إلى قلوب الآباء، بخلاف كثير من الأبناء، فإن فيهم العاقّ الذي لا يرعى حقوق الأبوة، والذي قد يضيق بدخول أبيه عليه، والأكل مما عنده.. ولهذا جاء الأمر بفتح هذه الأبواب.. أبواب الأبناء.
للآباء!.
وثانيهما: أن هذا الترتيب الذي جاءت عليه الآية في ذكر هذه الأصناف، هو ترتيب تنازلى في رفع الحرج، حسب درجة القرابة.. كما هو واضح في الآية.
الآباء أولا، فالأمهات، فالإخوة، فالأخوات، فالأعمام، فالعمات، فالأخوال، فالخالات.
بقي بعد هذا، أن نسأل عن تأويل قوله تعالى: {وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} فهل هناك حرج في أن يأكل الإنسان من بيته، حتى يدخل هذا في عموم الحكم القاضي برفع الحرج؟ إن أكل الإنسان من بيته هو الأصل الأصيل في هذا الباب، فكيف يجيء حكم برفع حرج عن أمر لا حرج فيه أصلا؟.
والجواب على هذا- واللّه أعلم- هو أن بيت الإنسان، وما فيه من مال، ومتاع، وطعام، وإن كان ملكا خالصا له، يتصرف فيه بما يشاء، وكيف يشاء- إلا أن ذلك ليس على إطلاقه في مفهوم الشريعة الإسلامية.
فالشريعة مع تسليمها بحق الإنسان بالتصرف فيما يملك، وبالتسلط على ما في يده من مال ومتاع- لا تعزل المسلم عن المجتمع الذي يعيش فيه، ولا تعزل المجتمع عنه فهو- أيّا كان- خلية في هذا المجتمع، وعضو من أعضاء هذا الجسد الكبير.. وأن ما يملكه الإنسان ليس ملكا خالصا له، وإنما تتعلق بهذا الملك حقوق للّه، وللوالدين والأقربين، والفقراء والمساكين، وابن السبيل، والمجاهدين في سبيل اللّه.
هذا ما ينبغى أن يقيم عليه المسلم، شعوره في كل ما يملك.. إن له في هذا الملك شركاء، منظورين، وغير منظورين.
وإذن فلا يغلق بابه على ما فيه من طعام، ولا يمسك يديه عما معه من مال، وإنه لن يكون على شريعة الإسلام إذا خلت نفسه من هذا الشعور، أو ضنّ بما تعلق من حقوق فيما بين يديه من فضل اللّه.
وعلى هذا نجد ما جاءت به الآية الكريمة من رفع الحرج عن أصحاب البيوت أن يأكلوا من بيوتهم، هو إلفات حكيم لأصحاب البيوت إلى أنهم ليسوا هم وحدهم أصحابها، والمستأثرين بما فيها، وأن هناك أصحاب حقوق يشاركونهم فيما في هذه البيوت، فإذا جاء أحد أصحاب الحقوق يطرق أبوابهم، فليفتحوا له، وليؤدوا إليه حقه! وألا إن الطارقين لكثيرون.. يأتون إليهم من قريب وبعيد.
فلا يضيقوا بهم، ولا يضجروا.. إنها حقوق يجب أن يؤدوها لهم، وأن يبرئوا ذمتهم منها، إن كانوا مؤمنين باللّه، مطيعين لما يأمر به اللّه.. وهنا يرفع الحرج عما يملكون، في أن ينتفعوا به، ويطلقوا أيديهم للتصرف فيه، بعد أن أدّوا ما عليهم من حقوق.. وإلا فإن الحرج قائم.. حتى تؤدى هذه الحقوق.
هكذا الملكية في شريعة الإسلام.. ملكية تتعلق بها حقوق، وتقوم عليها التزامات، ولن تصبح ملكا خالصا لمالكيها، حتى يؤدوا ما عليها من حقوق، ويفوا بما عليها من التزامات.
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً} أي ليس عليكم أيها المسلمون حرج في أن يأكل الواحد منكم وحده أو في جماعة.
حسب الظروف والأحوال.. وذلك أنه كان من عادة العرب ألّا يأكل الإنسان إلا إذا التمس من يأكل معه، ويشاركه فيما يأكل.. وفى هذا يقول شاعرهم:
إذا ما صنعت الزّاد فالتمسى ** له أكيلا فإنى لست آكله وحدي

فلما جاء الإسلام، ودعا إلى التكافل بين المسلمين، أمسك المسلمون بهذه العادة، وجعلوها أمرا ملزما، وخاصة بعد أن سمعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لهم: «ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا بلى يا رسول اللّه؟ قال: من أكل وحده، ومنع رفده، وضرب عبده».
ولا شك في أن مقصد الرسول الكريم بمن أكل وحده، هو ذلك الشره الشحيح الذي يؤثر نفسه بما بين يديه من طعام، دون أن يلتفت إلى من حوله من زوج، وولد، وخادم.. فإنه قلّ أن يأكل الإنسان وحده إلا إذا كان على تلك الصفة.. أما في غير تلك الحال، فإنه لا بأس من أن يأكل الإنسان وحده، ولهذا جاء القرآن برفع الحرج.
قوله تعالى: {فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
المراد بالبيوت هنا، هي تلك البيوت التي أشارت إليها الآية، والتي أذن بدخولها للأصناف الذين ذكروا فيها.
فهذه البيوت، لها حرمتها، ولأهلها الذين هم فيها علاقة مودة وقربى بمن يدخلون عليهم فيها.. ومن أجل هذا كان التسليم على أهلها، وصلا لهذه المودة، واستدعاء لهذه القرابة، التي تجمع المسلمين جميعا.
وفى قوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ} إشارة إلى أن الذي يدخل هذه البيوت، هو بعض ممن فيها. وأنه وقد دخلها- سواء أكان قريبا، أو صديقا، أو غير قريب أو صديق- فقد صار من أهلها، وصار أهلها منه.. وهكذا يصبح بيت كل مسلم بيتا لكل مسلم! وفى قوله تعالى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً} هو مفعول مطلق لقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا} الذي ضمّن معنى: فَحَيُّوا أي فحيوا أنفسكم تحية من عند اللّه مباركة طيبة، هي تحية الإسلام.. أي السلام عليكم.
ففى هذه التحية البركة، والطّيب، لما تشيع في النفوس من أمان وسلام، ومودة وإخاء.
هذا ويجوز أن يكون {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} منصوبا بفعل محذوف، تقديره، فسلموا على أنفسكم، وتقبلوا تحية من عند اللّه مباركة طيبة.
وفى قوله تعالى: {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
وفى جعل فاصلة الآية {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} إشارة إلى أن في هذه الآية معانى دقيقة تحتاج إلى روية وتعقل، لإدراك مراميها البعيدة، وأسرارها العظيمة.
وحسب المرء أن يدبر عقله، إلى تلك الرعاية التي أوجبها الإسلام على المسلمين في حق أصحاب العاهات، والمرضى، الذين هم الأعضاء الضعيفة في المجتمع، تلك الأعضاء التي ينبغى أن تكون موضع رعاية، وعناية، كما يرعى الإنسان بعض أعضائه، إذا أصابها مكروه..!